الثوابت الوطنية- حصن ضد التطرف وأمان المستقبل.

المؤلف: هاني الظاهري09.16.2025
الثوابت الوطنية- حصن ضد التطرف وأمان المستقبل.

في غضون الأشهر القليلة الفائتة، وتحديدًا قبل أيام معدودة، أزاح الستار المركز العالمي لمكافحة التطرف (اعتدال) عن تنامي ملحوظ في استخدام التنظيمات الإرهابية لمنصات التواصل الاجتماعي، حيث استحوذت الرسائل النصية على الحصة الأكبر من هذا النشاط المشبوه، لتشكل ما يقارب 90% من إجمالي المحتوى المتطرف. اللافت للانتباه، هو التراجع الملحوظ في استخدام أسماء قيادات التطرف في هذه المنشورات، بينما قلّ الاعتماد على المواد المرئية والمسموعة.

هذا الإعلان بمثابة دعوة ملحة، تستحثنا على إدراك أنه في خضم هذه الحقبة المتسارعة الأحداث والمتشابكة التحديات، تتبدى لنا جليةً أهمية الاعتزاز الراسخ بالثوابت الوطنية. هذه الثوابت هي بمثابة الصخرة الصلبة التي تتحطم عليها أمواج التطرف، والحصن المنيع الذي لا يمكن اختراقه أمام محاولات المتطرفين لنشر الفوضى وزعزعة استقرار الأوطان، وتمزيق نسيجها الاجتماعي والفكري المتين.

إن الاختيار الجوهري بين الانتماء الخالص للوطن، وبين السقوط المدوي في مستنقعات الفكر المتطرف، ليس مجرد قرار عابر أو تفضيل مؤقت، بل هو موقف مفصلي بالغ الأهمية، يرسم ملامح هوية الإنسان ويحدد مسار مجتمعه بأكمله. فكل استهانة أو تراخٍ في التعامل مع خطاب التطرف الخبيث، مهما تجمّل بعبارات جذابة وشعارات زائفة، أو استند إلى مبررات دينية أو فكرية واهية، إنما هو بمثابة الشرارة الأولى التي تشعل نار الفتنة المدمرة. ولعل أخطر ما يكمن في الفكر المتطرف، هو أنه لا ينشأ من العدم، بل يتغذى وينمو من مشاعر الاستياء والنفور تجاه الوطن ومؤسساته، ويجعل من معاداته مبدأً أساسياً في بناء تصوره وأهدافه المسمومة.

إن التنظيمات المتطرفة لا تعترف بالثوابت الوطنية، بل تنظر إليها على أنها العقبة الكأداء التي تعترض طريق مشروعها الأيديولوجي الهدام. لذلك، فإنها تسعى جاهدة إلى تفريغ مفاهيم الانتماء من جوهرها الحقيقي، وتحاول استبدال الولاء الوطني الصادق بولاء فكري أو ديني متشدد، يخدم مصالحها الخبيثة. ذلك لأن الثوابت الوطنية، في جوهرها، ليست مجرد شعارات جوفاء تُردد في المناسبات الرسمية، بل هي منظومة قيمية وأخلاقية متكاملة، تتجسد في احترام سيادة الوطن، وصون وحدته، والدفاع عن مكتسباته، وتوقير رموزه ومؤسساته. وهي بذلك تشكل حصانة واقية وحاجزًا منيعًا في وجه كل من تسول له نفسه اختراق النسيج المجتمعي المتماسك، أو تجنيد أبنائه لخدمة أجندات ضالة ومضللة. فكلما تعاظم الولاء والانتماء للوطن، تضاءلت فرص المتطرفين في التسلل إلى العقول والقلوب النقية.

إن المشاريع المتطرفة لا تقتصر أهدافها على تخريب الأمن وزعزعة الاستقرار لإضعاف السلطة فحسب، بل تهدف أيضًا إلى تفكيك المنظومة الاجتماعية المتكاملة، وذلك عبر نشر ثقافة الشك والريبة والانقسام، وبث الإشاعات المغرضة والأخبار الكاذبة، وتأويل النصوص الدينية لتحقيق مآرب شخصية، وإشاعة روح الإحباط واليأس في النفوس، وتبرير العنف والتمرد على القيم والمبادئ الأصيلة. وهنا تبرز بشكل قاطع أهمية اليقظة الفكرية الدائمة، وتفعيل المناعة الثقافية التي تحصّن الوعي الجمعي وتحمي المجتمع من الوقوع في براثن الخطاب المضلل.

ولا يسعني هنا إلا أن أكرر ما اعتدت على طرحه على مدار أكثر من خمسة عشر عامًا في مقالاتي المتنوعة، من أنه لا يكفي بتاتًا أن نواجه التطرف أمنيًا أو من خلال العمل المؤسساتي المنظم فحسب، بل لا بد لنا من مواجهة خطابه المسموم ومنهجه الخبيث على المستوى الشعبي أيضًا، وذلك من خلال العمل الدؤوب على تشجيع جميع أفراد المجتمع، وبشكل فعّال وملموس، على كشف التناقضات الصارخة التي تملأ الفكر المتطرف، وفضح زيف دعاواه الباطلة، وتفنيد استخدامه المغلوط والمنحرف للنصوص والرموز الدينية والتاريخية.

إن المعركة الشرسة مع التطرف هي في جوهرها معركة وعي وإدراك، وميدانها الأساسي والرئيسي هو الفكر والعقل. ولذلك، فإن الاستثمار الحقيقي الأمثل يكمن في التربية الوطنية السليمة، وتعزيز قيم التسامح والتعايش السلمي، والانفتاح الإيجابي على الآخر، وتكريس محورية القيم والثوابت الوطنية النبيلة. هذه هي أعظم الأسلحة التي يمكن أن تمتلكها المجتمعات في حربها المقدسة ضد الكراهية والبغضاء والتطرف والإرهاب، وكل ما يستهدف أمنها واستقرارها ومستقبلها الزاهر.

لقد علمتنا التجارب المريرة أن التطرف لا يزدهر وينمو إلا في بيئة هشة وضعيفة، تفتقر إلى الانتماء الحقيقي والثوابت الراسخة والوعي المستنير. ومن هنا، فإن ترسيخ الثوابت الوطنية في النفوس هو ضمانة أكيدة للاستقرار والازدهار، وصمّام الأمان الذي يحمي المجتمع من المخاطر، وسلاح فاعل ومؤثر ضد محاولات الاختراق الأيديولوجي الهدام. فالوطن ليس مجرد حدود جغرافية على الخريطة، بل هو هوية، وكرامة، وأمان، ومسؤولية عظيمة تقع على عاتق كل فرد.

أخيرًا، لا بد أن يدرك ويفهم كل من يفرّط أو حتى يتراخى في ولائه الوطني الصادق، وكل من يتهاون في مواجهة خطاب التطرف المقيت، أنه بذلك يفتح الباب على مصراعيه لخطر داهم يهدد المجتمع من الداخل، وينذر بعواقب وخيمة. وعلينا جميعًا أن نكون على قدر هذه المسؤولية الجسيمة، وأن نؤمن إيمانًا قاطعًا لا يلين بأن الثوابت الوطنية هي عهد مقدس لا يُنقض أبدًا، وسلاح حمايتنا ومستقبل أبنائنا الذي لا يُهزم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة